هدر التأمين الصحي- رقابة وتشريع لمكافحة الاحتيال وسوء الاستخدام
المؤلف: فراس طرابلسي08.27.2025

في تطور لافت للنظر، وجّه مجلس الشورى مؤخرًا تنبيهًا بالغ الأهمية حيال ما أسماه بـ "التبديد والتحايل والاستغلال السيئ للتأمين الصحي"، مؤكدًا على وجوب اضطلاع هيئة التأمين بدور أكثر فاعلية في مجابهة هذه الآفات. وعلى الرغم من أن هذا التنبيه ربما لم يلقَ الصدى الكافي لدى البعض، إلا أنه في صميم الأمر يسلط الضوء على مشكلة جوهرية تتداخل فيها الاختلالات الإدارية مع القصور الرقابي، وتستدعي استجابة جذرية تتجاوز مجرد حلول مؤقتة أو لوم مؤسسي.
إن التلاعب في التأمين الصحي لا يقتصر على صورة واحدة، بل يتوزع على نطاق واسع من الممارسات التي أصبحت مألوفة في قطاع الخدمات الطبية الخاصة، مثل إصدار تقارير طبية غير دقيقة لتبرير إجراء فحوصات غير ضرورية، أو المبالغة في أسعار الإجراءات الطبية، أو تكرارها دون مسوغ، أو تواطؤ بعض شركات التأمين بالتغاضي عن تلك الممارسات مقابل إبرام صفقات تعاقدية. ومما يزيد الأمر تعقيدًا أن هذه التجاوزات غالبًا ما لا تواجه بنظام متابعة فعال، بل يتم طيها في سجلات داخلية أو تُترك لتقدير المؤسسة الصحية ذاتها، وكأن الرقابة أمر اختياري وليس ضرورة ملحة.
إن القضية هنا لا تقتصر على مخالفة فردية، بل تتسع لتخلف تداعيات تطال الجميع. فهذه الممارسات تزيد من تكاليف التأمين على الأفراد والشركات، وتزعزع ثقة المواطنين في جدوى التغطية التأمينية، وتخل بالتوازن المالي لشركات التأمين، وتثقل كاهل المالية العامة للدولة بشكل أو بآخر، في الوقت الذي تسعى فيه الحكومة جاهدة لترسيخ كفاءة الإنفاق كأحد الأركان الأساسية لرؤيتها الوطنية الطموحة.
ومن منظور قانوني، يثار تساؤل جوهري لا يمكن تجاهله: هل نمتلك اليوم تشريعًا واضحًا يجرم الغش التأميني الطبي بصورته المعاصرة؟ والحقيقة أن نظام التأمين الصحي التعاوني، على الرغم من شموله، لا يتضمن حتى الآن بنودًا صريحة تتناول هذه الأفعال باعتبارها "تحايلًا ممنهجًا". هذا الفراغ التشريعي لا يمكن تبريره على الإطلاق، بل يستدعي تدخلًا تشريعيًا فوريًا لتجريم هذه السلوكيات، وتزويد الهيئة الرقابية بأدوات تنفيذية ناجعة.
إذا أردنا الاستجابة لتحذير مجلس الشورى بمسؤولية ووعي، فإن الحل لا يكمن في مجرد المطالبة بتفعيل الرقابة، بل في إنشاء منظومة متكاملة تتوزع على أربعة مسارات متكاملة ومترابطة:
• التحول الرقمي الذكي: إقامة ربط مباشر بين ملفات المرضى وسجلات شركات التأمين، واستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي لرصد الأنماط الاحتيالية، واستحداث مؤشرات إنذار مبكر للحالات التي تتجاوز المعدلات الطبيعية.
• تشريع رادع وحاسم: تضمين بنود واضحة في نظام التأمين الصحي تجرم الغش التأميني، مع منح الجهات المختصة صلاحية الإيقاف المؤقت أو الدائم، وتحميل شركات التأمين المسؤولية في حال ثبوت العلم أو التواطؤ.
• حوكمة رقابية صارمة: إنشاء وحدة تحقيق مستقلة داخل الهيئة، ترتبط إلكترونيًا بأنظمة الترخيص والمخالفات، وتصدر تقارير دورية للجهات الرقابية العليا.
• إصلاح ثقافي شامل: إطلاق حملات توعية وطنية ترسخ مفهوم أن التأمين هو أمان وليس وسيلة للكسب غير المشروع، ودمج مفاهيم الأمانة التأمينية ضمن مناهج التعليم الصحي والتدريب المهني.
إن الحديث عن التأمين الصحي ليس مجرد ترفيه تنظيمي، بل هو جزء لا يتجزأ من منظومة الأمن الوطني الصحي، ومفتاح أساسي من مفاتيح تحقيق العدالة الاجتماعية الحديثة. ويجب ألا يُنظر إلى تحذير مجلس الشورى على أنه مجرد لوم مؤسسي، بل كفرصة سانحة لإعادة توجيه المسار، ومناسبة لإثبات أن الدولة عازمة ليس فقط على تغطية تكاليف العلاج، بل وأيضًا على حماية نظام التأمين نفسه من أي تلاعب أو استغلال.
إن التلاعب في التأمين الصحي لا يقتصر على صورة واحدة، بل يتوزع على نطاق واسع من الممارسات التي أصبحت مألوفة في قطاع الخدمات الطبية الخاصة، مثل إصدار تقارير طبية غير دقيقة لتبرير إجراء فحوصات غير ضرورية، أو المبالغة في أسعار الإجراءات الطبية، أو تكرارها دون مسوغ، أو تواطؤ بعض شركات التأمين بالتغاضي عن تلك الممارسات مقابل إبرام صفقات تعاقدية. ومما يزيد الأمر تعقيدًا أن هذه التجاوزات غالبًا ما لا تواجه بنظام متابعة فعال، بل يتم طيها في سجلات داخلية أو تُترك لتقدير المؤسسة الصحية ذاتها، وكأن الرقابة أمر اختياري وليس ضرورة ملحة.
إن القضية هنا لا تقتصر على مخالفة فردية، بل تتسع لتخلف تداعيات تطال الجميع. فهذه الممارسات تزيد من تكاليف التأمين على الأفراد والشركات، وتزعزع ثقة المواطنين في جدوى التغطية التأمينية، وتخل بالتوازن المالي لشركات التأمين، وتثقل كاهل المالية العامة للدولة بشكل أو بآخر، في الوقت الذي تسعى فيه الحكومة جاهدة لترسيخ كفاءة الإنفاق كأحد الأركان الأساسية لرؤيتها الوطنية الطموحة.
ومن منظور قانوني، يثار تساؤل جوهري لا يمكن تجاهله: هل نمتلك اليوم تشريعًا واضحًا يجرم الغش التأميني الطبي بصورته المعاصرة؟ والحقيقة أن نظام التأمين الصحي التعاوني، على الرغم من شموله، لا يتضمن حتى الآن بنودًا صريحة تتناول هذه الأفعال باعتبارها "تحايلًا ممنهجًا". هذا الفراغ التشريعي لا يمكن تبريره على الإطلاق، بل يستدعي تدخلًا تشريعيًا فوريًا لتجريم هذه السلوكيات، وتزويد الهيئة الرقابية بأدوات تنفيذية ناجعة.
إذا أردنا الاستجابة لتحذير مجلس الشورى بمسؤولية ووعي، فإن الحل لا يكمن في مجرد المطالبة بتفعيل الرقابة، بل في إنشاء منظومة متكاملة تتوزع على أربعة مسارات متكاملة ومترابطة:
• التحول الرقمي الذكي: إقامة ربط مباشر بين ملفات المرضى وسجلات شركات التأمين، واستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي لرصد الأنماط الاحتيالية، واستحداث مؤشرات إنذار مبكر للحالات التي تتجاوز المعدلات الطبيعية.
• تشريع رادع وحاسم: تضمين بنود واضحة في نظام التأمين الصحي تجرم الغش التأميني، مع منح الجهات المختصة صلاحية الإيقاف المؤقت أو الدائم، وتحميل شركات التأمين المسؤولية في حال ثبوت العلم أو التواطؤ.
• حوكمة رقابية صارمة: إنشاء وحدة تحقيق مستقلة داخل الهيئة، ترتبط إلكترونيًا بأنظمة الترخيص والمخالفات، وتصدر تقارير دورية للجهات الرقابية العليا.
• إصلاح ثقافي شامل: إطلاق حملات توعية وطنية ترسخ مفهوم أن التأمين هو أمان وليس وسيلة للكسب غير المشروع، ودمج مفاهيم الأمانة التأمينية ضمن مناهج التعليم الصحي والتدريب المهني.
إن الحديث عن التأمين الصحي ليس مجرد ترفيه تنظيمي، بل هو جزء لا يتجزأ من منظومة الأمن الوطني الصحي، ومفتاح أساسي من مفاتيح تحقيق العدالة الاجتماعية الحديثة. ويجب ألا يُنظر إلى تحذير مجلس الشورى على أنه مجرد لوم مؤسسي، بل كفرصة سانحة لإعادة توجيه المسار، ومناسبة لإثبات أن الدولة عازمة ليس فقط على تغطية تكاليف العلاج، بل وأيضًا على حماية نظام التأمين نفسه من أي تلاعب أو استغلال.